فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فانظر إلى هذا الجدَل الراقي والأسلوب العالي: ففي خطابهم يقول: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَا أَجْرَمْنَا } [سبأ: 25] وينسب الإجرام إلى نفسه، وحين يتكلم عن نفسه يقول: {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] ولم يقُلْ هنا: تجرمون لتكون مقابلة بين الحالين. وفي هذا الأسلوب ما فيه من جذب القلوب وتحنينها لتقبُّل الحق.
ولما اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ردَّ عليهم القران بالعقل وبالمنطق، فسألهم: ما الجنون؟ الجنون أنْ تصدر الأفعال الحركية عن غير بدائل اختيارية من المخ، فهل جرَّبْتُم على محمد شيئًا من هذا؟ وما هو الخُلق؟ الخُلق: استقامة المنهج والسلوك على طريق الكمال والخير، فهل رأيتُم على محمد خلاف هذا؟
لذلك يقول تعالى في الرد عليهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [سبأ: 46].
وكيف يكون صاحب هذا الخلُق القويم والسلوك المنضبط في الخير مجنونًا؟
ولما قالوا: كذاب، جادلهم القران:
{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
لقد أتتْه الرسالة بعد الأربعين، فهل سمعتم عنه خطيبًا أو شاعرًا؟ فهل قال خطبة أو قصيدة تحتفظون بها كما تحتفظون بقصائد شعرائكم؟
وقالوا: إنها عبقرية كانت عند محمد، فأيُّ عبقرية هذه التي تتفجَّر بعد الأربعين، ومَنْ يضمن له الحياة وهو يرى الناس يتساقطون من حوله: أبوه مات قبل أنْ يوُلد، وأمه ماتت وهو رضيع، وجدُّه مات وهو ما يزال صغيرًا.
وهكذا، يعطينا القران مثالًا للجدل بالحكمة والموعظة الحسنة، للجدل الصادر عن عِلْم بما تقول، وإدراك لحقائق الأمور.
لذلك؛ لما ذهب الشَّعْبي لملك الروم قال له الملك: عندكم في الإسلام أمور لا يُصدِّقها العقل، فقال الشَّعْبيّ: ما الذي في الإسلام يخالف العقل؟ قال: تقولون إن في الجنة طعامًا لا ينفد أبدًا، ونحن نعلم أن كل ما أُخذ منه مرة بعد مرة لابُدَّ أنْ ينفد. انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون.
قال الشَّعْبي: أرأيتَ لو أن عندك مصباحًا، وجاءت الدنيا كلها فقبستْ من ضوئه، أينقص من ضوء المصباح شيء؟ هذا- إذن- جدل راقٍ وعلى أعلى مستوى.
ويستمر ملك الروم فيقول: كيف نأكل في الجنة كُلَّ ما نشتهي دون أوْ نتغوّط أو تكون لنا فضلات؟ نقول: أرأيتم الجنين في بطن الأم: أينمو أم لا؟ إنه ينمو يوما بعد يوم، وهذا دليل على أنه يتغذَّى، فهل له فضلات؟ لو كان للجنين فضلات ولو تغوَّط في مشيمته لمات، إذن: يتغذى الجنين غذاءً على قَدْر حاجة نموه، بحيث لا يتبقى من غذائه شيء.
ثم قال: أين تذهب الأرواح بعد أنْ تفارق الأجساد؟ أجاب الرجل إجمالًا: تذهب حيث كانت قبل أنْ تحلَّ فيك، وأمامك المصباح وفيه ضوء، ثم نفخ المصباح فانطفأ، فقال له: أين ذهب الضوء؟
ومن الجدل الذي جاء عن عِلْم ودراية ما حدث من الإمام على رضي الله عنه، حيث قتلَ أصحابُ معاوية عمارَ بن ياسر، فغضب الصحابة في صفوف معاوية وتذكَّروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمار: «تقتله الفئة الباغية» وأخذوا يتركون جيش معاوية واحدًا بعد الآخر، فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال: لقد فشَتْ في الجيش فاشية، إنْ هي استمرتْ فلن يبقى معنا رجل واحد، فقال معاوية: وما هي؟ قال: يقولون: إننا قتلنا عمارًا والنبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: «تقتله الفئة الباغية». فاحتار معاوية ثم قال: قُلْ لهم قتله مَنْ أخرجه للقتال- يعني: علي بن أبي طالب، فلما بلغ الكلامُ سيدنا عليًّا، قال: قولوا لهم: فمَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب؟ أي: إن كان الأمر كما تقولون فالنبي صلى الله عليه وسلم هو قاتل حمزة؛ لأنه هو الذي أخرجه للقتال.
هذا هو الجدل عن علم، والعلم قد يكون علمًا بدهيًّا وهو العلم الذي تؤمن به ولا تستطيع أن تدلل عليه. أو علمًا عقليًّا استدلاليًّا، وقد يكون العلم بالوحي من الله لا دَخْلَ لأحد فيه، وسبق أنْ ضربنا مثلًا للبدهيات بالولد الصغير حينما يرى أخاه يجلس بجوار أبيه على المقعد مثلًا، فيأتي الصغير يريد أنْ يجلس هو بجوار الأب، فيحاول أولًا أنْ يقيم أخاه من المكان فيشدُّه ويجذبه ليخلى له المكان.
وهنا نتساءل: كيف عرف الطفل الصغير أن الحيِّز لا يسع اثنين؟ ولا يمكن أنْ يحلَّ بالمكان شيء إلا إذا خرج ما فيه أولًا؟
هذه أمور لم نعلمها إلا في دراستنا الثانوية، فعرفنا معنى الحيِّز وعدم تداخل الأشياء، هذه المسألة يعرفها الطفل بديهة.
ولو تأملتَ النظريات الهندسية لوجدتَ أن كل نظرية تُبنَى على نظرية سابقة، فلو أردت أنْ تبرهن على النظرية المائة تستخدم النظرية تسعين مثلًا، وهكذا إلى أنْ تصلَ إلى نظرية بدهية لا برهانَ عليها.
وهكذا تستطيع أن تقول: إن كل شيء علمي في الكون مبنيٌّ على البدهيات التي لا تحتاج إلى برهان، ولا تستطيع أن تضع لها تعريفًا، فالسماء مثلًا، يقولون هي كل ما علاك فأظَّلك، فالسقف سماء، والغيم سماء، والسحاب سماء، والسماء سماء، مع أن السماء لا تحتاج إلى مثل هذا التعريف؛ لأنك حين تسمع هذه الكلمة السماء تعرف معناها بديهة دون تعريف.
وهذه الأمور البدهية لا جدلَ فيها؛ لأنها واضحة، فلو قلتَ لهذا الطفل: اجلس على أخيك، فهذا ليس جدلًا؛ لأنه لا يصح.
أما العلم الاستدلالي فأنْ تستدل بشيء على شيء، كأنْ تدخل بيتك فتجد عقب سيجارة مثلًا في طفاية السجائر فتسأل: مَنْ جاءكم اليوم؟ ومثل الرجل العربي حين سار في الصحراء، فوجد على الأرض آثارًا لخفِّ البعير وبَعْره، فقال: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.
أما عِلْم الوحي فيأتي من أعلى، يلقيه الله سبحانه على مَنْ يشاء من عباده.
فعلى المجادل أن يستخدم واحدًا من هذه الثلاثة ليجادل به، فإن جادل بغير علم فهي سفسطة لا طائل من ورائها.
وقد نزلت هذه الآية: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الحج: 3] في النضر بن الحارث، وكان يجادل عن غير علم في الوجود، وفي الوحدانية، وفي البعث.. إلخ.
والآية لا تخص النضر وحده، وإنما تخص كل مَنْ فعل فِعْله، ولَفَّ لفَّه من الجدل.
ثم يقول تعالى: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} [الحج: 3] أي: أن هذا الجدل قد يكون ذاتيًّا من عنده، أو بوسوسة الشيطان له بما يخالف منهج الله، سواء أكان شيطانَ الإنس أو شيطانَ الجن.
إذن: فالسيئات والانحرافات والخروج عن منهج الله لا يكون بوسوسة، إما من النفس التي لا تنتهي عن مخالفة، وإما من الشيطان الذي يُلِحُّ عليك إلى أنْ يوقِع بك في شِرَاكه.
لَكِن، لا نجعل الشيطان شماعة نعلق عليها كل سيئاتنا وخطايانا، فليست كل الذنوب من الشيطان، فمن الذنوب ما يكون من النفس ذاتها، وسبق أنْ قُلْنا: إذا كان الشيطان هو الذي يوسوس بالشر، فمَنِ الذي وسوس له أولًا؟ وكما قال الشاعر:
إِبْلِيسُ لَمَا غَوَى مَنْ كَانَ إبليسُه

وفَرْق بين المعصية من طريق النفس، والمعصية من طريق الشيطان، الشيطان يريدك عاصيًّا على أيِّ وجه من الوجوه، أمّا النفس فتريدك عاصيًّا من وجه واحد لا تحيد عنه، فإذا صرفتَها إلى غيره لا تنصرف وتأبى عليك، إلاَّ أنْ تُوقعك في هذا الشيء بالذات.
وهذا بخلاف الشيطان إذا تأبيْتَ عليه ولم تُطِعْهُ في معصية صرفكَ إلى معصية أخرى، أيًّا كانت، المهم أن تعصي، وهكذا يمكنك أنْ تُفرِّق بين المعصية من نفسك، أو من الشيطان.
ولما سُئل أحد العلماء: كيف أعرف: أأنا من أهل الدنيا أمْ من أهل الآخرة؟ قال: هذه مسألة ليستْ عند العلماء إنما عندك أنت، قال: كيف؟ قال: انظر في نفسك، فإنْ كان الذي يأخذ منك الصدقة أحبّ إليك ممَّنْ يعطيك هدية، فاعلم أنك من أهل الآخرة، وإنْ كانت الهدية أحبَّ إليك من الصدقة فأنت من أهل الدنيا.
ذلك لأن الإنسان يحب من عمَّر له ما يحب، فالذي يعطيك يعمر لك الدنيا التي تحبها فأنت تحبه، وكذلك الذي يأخذ منك يعمر لك الآخرة التي تحبها فأنت تحبه. فهذه مسألة لا دَخْل للشيطان فيها.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] فهذه الآية تُجمل أنواع العلم الثلاثة التي تحدثنا عنها: فالعلم يُرَاد به البدهيات، والهدى أي: الاستدلال، والكتاب المنير يُراد به ما جاء وَحيًْا من الله، وبهذه الثلاثة يجب أن يكون الجدال وبالتي هي أحسن.
ومعنى: {مَّرِيدٍ} [الحج: 3] من مَرَدَ أو مَرُدَ يمرد كنثر ينثُر، والمرود: العُتوُّ وبلوغ الغاية من الفساد، ومنها مارد ومريد ومتمرد، والمارد: هو المستعلى أعلى منك.
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} أي: كتب الله على هذا الشيطان المريد، وحكم عليه حُكمًا ظاهرًا، هكذا عيني عينك كما يقال: {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } [الحج: 4] أي: تابعه وسار خلفه {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الحج: 4] يضله ويهديه ضِدّان، فكيف نجمع بينهما؟
المراد: يُضِلُّه عن طريق الحق والخير، ويهديه أي: للشر؛ لأن معنى الهداية: الدلالة مُطْلقًا، فإن دللْتَ على خير فهي هداية، وإن دللتَ على شر فهي أيضًا هداية.
واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وما كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: 22- 23].
أي: دُلُّوهم وخُذوا بأيديهم إلى جهنم.
ويقول تعالى في آية أخرى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } [النساء: 168- 169].
والسَّعير: هي النار المتوهّجة التي لا تخمد ولا تنطفئ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} قال: نزلت في النضر بن الحارث.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جرير مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ويتبع كل شيطان مريد} قال: تمرد على معاصي الله.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {كتب عليه} قال: كتب على الشيطان.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {كتب عليه} قال: على الشيطان {أنه من تولاه} قال: اتبعه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)}.
و من في {مَن يُجَادِلُ} يجوزُ أَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً، وأن تكونَ موصولةً. و{فِي الله} أي في صفاتِه. و{بِغَيْرِ عِلْمٍ} مفعولٌ أو حالٌ مِنْ فاعلِ {يُجادل}. وقرأ زيد بن علي {وَتْبَعُ}.
قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ}: قرأ العامَّةُ: {كُتِبَ} مبنيًّا للمفعولِ وفتحَ أن في الموضعين. وفي ذلك وجهان، أحدُهما: أنَّ الضميرَ وما في حَيِّزه في محلِّ رفعٍ لقيامِه مقامَ الفاعل. فالهاءُ في {عليه} وفي {أنه} يعودان على من المتقدمةِ. ومن الثانية يجوز أن تكونَ شرطيةً والفاءُ جوابُها، وأن تكونَ موصولةً، والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ لشَبَهِ المبتدأ بالشرط. وفُتِحَتْ أن الثانيةُ لأنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبرًا لمبتدأ محذوفٍ، تقديره: فشأنهُ وحالُه أنه يُضِلُّه. أو يُقَدَّر {فَأَنَّه} مبتدأ، والخبر محذوفٌ أي: فله أنَّه يَضِلُّه.
الثاني: قال الزمخشري: ومَنْ فَتَحَ فلأنَّ الأولَ فاعلُ {كُتِب}، والثاني عَطْفٌ عليه. قال الشيخ: وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَ {فأنَّه} عطفًا على {أنَّه} بقيت {أنَّه} بلا استيفاءِ خبرٍ، لأنَّ {مَنْ تَوَلاَّه} من فيه مبتدأةٌ. فإنْ قَدَّرْتَها موصولةً فلا خبرَ لها حتى تَسْتقلَّ خبرًا لـ: {أنه}. وإنْ جَعَلْتَها شرطيةً فلا جوابَ لها؛ إذ جُعِلَتْ {فأنَّه} عَطْفًا على {أنه}.
قلت: وقد ذَهبَ ابنُ عطية رحمه الله إلى مثلِ قولِ الزمخشري فإنه قال: {وأنَّه} في موضعِ رفعٍ على المفعولِ الذي: لم يُسَمَّ فاعلُه و{أنَّه} الثانيةُ عطفٌ على الأولى مؤكدةً مثلَها. وهذا رَدٌّ واضحٌ.
وقرئ: {كَتَبَ} مبنيًّا للفاعلِ أي: كَتَبَ اللهُ. فـ: أن وما في حَيِّزها في محل نصب على المفعول به، وباقي الآية على ما تقدم.
وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو {إنه} {فإنه} بكسرِ الهمزتين. وقال ابن عطية: وقرأ أبو عمروٍ {إنَّه} {فإنه} بالكسر فيهما، وهذا يُوْهم أنَّه مشهورٌ عنه وليس كذلك. وفي تخريجِ هذه القراءة ثلاثةُ أوجهٍ ذكرها الزمخشري وهي: أَنْ تكونَ على حكايةِ المكتوبِ كما هو، كأنه قيل: كُتِب عليه هذا اللفظُ، كما تقول: كُتِبَ عليه: إنَّ الله هو الغني الحميد. الثاني أن يكونَ على إضمار قيل. الثالث: أنَّ {كُتِبَ} فيه معنى قيل. قال الشيخ: أمَا تقديرُ قيل يعني فيكون {عليه} في موضعِ مفعولِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه و{أنه مَنْ تولاَّه} الجملةُ مفعولٌ لم يُسَمَّ لـ: قيل المضمرة. وهذا ليس مذهبَ البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلًا ولا تكون مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وكأنَّ الشيخَ قد اختارَ ما بدأ به الزمخشريُّ أولًا، وفيه ما فَرَّ منه: وهو أنه أسندَ الفعلَ إلى الجملةِ فاللازمُ مُشْتَرَكٌ.
وقد تقدَّم تقريرُ مثلِ هذا في أولِ البقرة. ثم قال: وأمَا الثاني يعني أنه ضُمِّنَ {كُتِب} معنى القول فليس مذهبَ البصريين لأنَّه لا تُكْسَرُ أن عندهم إلاَّ بعد القول الصريح لا ما هو بمعناه.
والضميران في {عليه} و{أنه} عائدان على من الأولى كما تقدَّم، وكذلك الضمائرُ في {تَوَلاَّه} و{فأنه}، والمرفوعُ في {يُضِلُّه} و{يَهْديه}؛ لأنَّ من الأول هو المحدَّثُ عنه. والضميرُ المرفوعُ في {تَوَلاَّه} والمنصوبُ في {يُضِِلُُّه} و{يَهْدِيه} عائدٌ على من الثانيةِ. وقيل: الضميرُ في {عليه} لكلِّ شيطانٍ. والضميرُ في {فأنَّه} للشأن. وقال ابن عطية: الذي يَظْهَرُ لي أنَّ الضميرَ الأولَ في {أنَّه} يعودُ على كل شيطان، وفي {فأنَّه} يعودُ على من الذي هو المُتَوَلِّي. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)}.
المجادلة لله- مع أعداء الحق وجاحدي الدِّين- من موجبات القربة، والمجادلة في الله- والمماراة مع أوليائه، والإصرارُ على الباطل بعد ظهور الدلائل من أمارات الشقوة، وما كان لوساوس الشيطان ونزعاته فقصاراه النار.
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}.
مَنْ وافق الشيطان بمتابعة دواعيه لا يهديه إلاَّ إلى الضلال، ثم إنه في الآخرة يتبرأ من موافقته ويلعن جملةَ مُتَّبِعيه. فنعوذ بالله من الشيطان ونزغاته، ومن درك الشقاء وشؤم مفاجآته. اهـ.